فصل: تفسير الآيات رقم (37- 38)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


الجزء الأول

سورة الفاتحة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏1‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

الحَمْدُ‏:‏ معناه الثناء الكاملُ، والألف واللام فيه لاِستغراقِ الجنس من المحامد، وهو أعم من الشكر؛ لأنَّ الشكر إنما يكون على فِعْلٍ جميل يسدى إِلى الشاكر، والحمد المجرَّد هو ثناء بصفات المحمود‏.‏

قال‏:‏ * ص *‏:‏ وهل الحمدُ بمعنى الشكْر أو الحمدُ أَعمُّ، أو الشكر ثناءٌ على اللَّه بأفعاله، والحمد ثناء عليه بأوصافه‏؟‏ ثلاثةُ أقوال‏.‏ انتهى‏.‏

قال الطبريُّ‏:‏ الحمدُ لِلَّهِ‏:‏ ثناءٌ أثنى به على نفسه تعالى، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا به عليه؛ فكأنه قال‏:‏ قولوا‏:‏ الحمد للَّه، وعلى هذا يجيء‏:‏ قولوا‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ‏}‏، و‏{‏اهدنا‏}‏‏.‏

قال‏:‏ وهذا من حذف العربِ ما يدلُّ ظاهر الكلام عليه، وهو كثيرٌ‏.‏

والرب؛ في اللغة‏:‏ المعبودُ، والسيدُ المالكُ، والقائمُ بالأمور المُصْلِحُ لما يفسد منها، فالرب على الإِطلاق هو ربُّ الأرباب على كل جهة، وهو اللَّه تعالى‏.‏

والعَالَمُونَ‏:‏ جمع عَالَمٍ، وهو كل موجود سوى اللَّه تعالى، يقال لجملته‏:‏ عَالَمٌ، ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عَالَمٌ، عَالَمٌ، وبحسب ذلك يجمع على العَالَمِينَ، ومن حيثُ عالَمُ الزمانِ متبدِّلٌ في زمان آخر، حَسُنَ جمعها، ولفظة العالَمِ جمع لا واحد له من لفظه، وهو مأخوذ من العَلَمِ والعلامة؛ لأنه يدل على موجده؛ كذا قال الزَّجَّاج، قال أبو حَيَّان‏:‏ الألف واللام في العَالَمِينَ لِلاستغراقِ، وهو جمع سلامة، مفرده عَالَمٌ، اسم جمع، وقياسه ألا يجمع، وشذَّ جمعه أيضاً جمع سلامة؛ لأنه ليس بعَلَمٍ ولا صفةٍ‏.‏

* م *‏:‏ وذهب ابنُ مالك في «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» إلى أن «عَالَمِين» اسم جمعٍ لمن يعقل، وليس جمع عالمٍ؛ لأن العَالَمَ عامٌّ، و«عالَمِينَ» خاصٌّ، قلت‏:‏ وفيه نظر‏.‏ انتهى‏.‏

وقد تقدَّم القول في الرحمن الرحيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏4‏)‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏مالك يَوْمِ الدين‏}‏‏:‏ الدِّينُ في كلام العربِ على أنحاء، وهو هنا الجزاءُ يوم الدين، أي‏:‏ يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها؛ قاله ابن عباس وغيره؛ مَدِينِينَ‏:‏ محاسَبِينَ، وحكى أهل اللغة‏:‏ دِنْتُهُ بِفِعْلِهِ دَيْناً؛ بفتح الدال، وَدِيناً؛ بكسرها‏:‏ جزيتُهُ؛ ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏(‏الكامل‏)‏

واعلم يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائِلٌ *** واعلم بِأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ

‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏‏:‏ نطق المؤمن به إِقرار بالربوبية، وتذلُّل وتحقيق لعبادة اللَّه؛ وقدَّم «إِيَّاكَ» على الفعل اهتماما، وشأن العرب تقديم الأَهَمِّ، واختلف النحويُّون في «إِياك»، فقال الخليلُ‏:‏ «إيَّا»‏:‏ اسم مضمر أضيف إِلى ما بعده؛ للبيان لا للتعريف، وحكى عن العرب‏:‏ «إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّينَ، فَإِيَّاهُ وَإِيَّا الشَّوَابِّ»، وقال المبرِّد‏:‏ إِيَّا‏:‏ اسمٌ مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، وحكى ابن كَيْسَانَ عن بعض الكوفيِّين أنَّ «إِيَّاكَ» بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغيَّر آخره غيره، وحكي عن بعضهم أنه قال‏:‏ الكاف والهاء والياء هو الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها، ولا تكون إِلا متصلات، فإذا تقدَّمت الأفعال جعل «إِيَّا» عماداً لها، فيقال‏:‏ إِيَّاكَ، وإِيَّاهُ، وإِيَّايَ، فإِذا تأخرت، اتصلت بالأفعال، واستغني عن «إِيَّا»‏.‏

و ‏{‏نَعْبُدُ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ نقيم الشرع والأوامر مع تذلُّل واستكانةٍ، والطريقْ المذلَّل يقال له معبَّدٌ، وكذلك البعير‏.‏

و ‏{‏نَسْتَعِينُ‏}‏؛ معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تَبَرٍّ من الأصنام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏6‏)‏ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا‏}‏‏:‏ رغبة؛ لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغ الأمر كلها، فإِذا كانت من الأعلى، فهي أَمْرٌ‏.‏

والهِدَايَةُ؛ في اللغة‏:‏ الإرشادُ، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسِّرون بغير لفظ الإِرشاد وكلها إِذا تأملت راجِعةٌ إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خَلْقِ الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ و‏{‏يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 46‏]‏، و‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏ الآية، قال أبو المعالي‏:‏ فهذه الآيات لا يتجه جلها إلا على خلق الإيمان في القلب، وهو محض الإرشاد‏.‏

وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ أي‏:‏ داع ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏

وقد جاء الهدى بمعنى الإِلهام؛ من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.‏

قال المفسِّرون‏:‏ ألهم الحيواناتِ كلَّها إِلى منافعها‏.‏

وقد جاء الهدى بمعنى البيان؛ من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏ قال المفسِّرون‏:‏ معناه‏:‏ بيَّنَّا لهم‏.‏

قال أبو المعالي‏:‏ معناه‏:‏ دعوناهُمْ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا للهدى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 12‏]‏، أي‏:‏ علينا أنْ نبيِّن‏.‏

وفي هذا كله معنى الإِرشاد‏.‏

قال أبو المعالي‏:‏ وقد ترد الهدايةُ، والمراد بها إِرشاد المؤمنين إِلى مسالك الجِنَانِ والطرقِ المفضيةِ إِلَيْهَا؛ كقوله تعالى في صفة المجاهدين‏:‏ ‏{‏فَلَنْ يُضِلَّ أعمالهم سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4-5‏]‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 23‏]‏، معناه‏:‏ فاسلكوهم إِليها‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ وهذه الهدايةُ بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضدُّ الضلالِ، وهي الواقعة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏؛ على صحيح التأويلات، وذلك بيِّن من لفظ «الصِّرَاط» والصراط؛ في اللغة‏:‏ الطريقُ الواضِحُ؛ ومن ذلك قول جَرِيرٍ‏:‏ ‏(‏الوافر‏)‏

أَمِيرُ المُؤْمِنيِنَ على صِرَاطٍ *** إِذَا اعوج المَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ

واختلف المفسِّرون في المعنى الذي استعير له «الصِّراط» في هذا الموضع‏:‏ فقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه‏:‏ الصراط المستقيم هنا القرآنُ، وقال جابرٌ‏:‏ هو الإِسلام، يعني الحنيفيَّة‏.‏

وقال محمَّد بن الحنفيَّة‏:‏ هو دينُ اللَّه الذي لا يَقْبَلُ مِن العِبَادِ غيره‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ هو رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بَكْر وعمر، أي‏:‏ الصراط المستقيم طريقُ محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وهذا قويٌّ في المعنى، إلاَّ أنَّ تسمية أشخاصهم طريقاً فيه تجوُّز، ويجتمع من هذه الأقوال كلِّها أنَّ الدعوة هي أنْ يكون الداعي على سنن المنعم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام؛ وهو حالُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصاحبيه‏.‏

وهذا الدعاء إِنما أمر به المؤمنون، وعندهم المعتقدات، وعند كل واحد بعض الأعمال، فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏اهدنا‏}‏ فيما هو حاصل عندهم‏:‏ التثبيتُ والدوام، وفيما ليس بحاصل، إِما من جهة الجهل به، أو التقصير في المحافظة عليه‏:‏ طلب الإِرشاد إِليه، فكلُّ داع به إنما يريد الصراط بكماله في أقواله، وأفعاله، ومعتقداته؛ واختلف في المشار إِليهم بأنه سبحانه أنعم عليهم، وقول ابن عبَّاس، وجمهور من المفسِّرين‏:‏ أنه أراد صراط النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالِحِين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏رَفِيقاً‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين‏}‏، اعلم أنَّ حكم كل مضافٍ إلى معرفة أنْ يكون معرفة، وإنما تنكَّرت «غَيْرٌ» و«مِثْلٌ» مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك إِذا قلْتَ‏:‏ رأيتُ غَيْرَكَ، فكلُّ شيء سوى المخاطَبِ، فهو غيره؛ وكذلك إِنْ قُلْتَ‏:‏ رأيْتُ مثْلَكَ، فما هو مثله لا يحصى؛ لكثرة وجوه المماثلة‏.‏

و ‏{‏المغضوب عَلَيْهِمْ‏}‏‏:‏ اليهودُ، والضالُّون‏:‏ النصارى؛ قاله ابن مسعود، وابن عَبَّاس، مجاهد، والسُّدِّيُّ، وابن زيد‏.‏

وروى ذلك عديُّ بن حاتم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك بيِّن من كتاب اللَّه؛ لأنَّ ذِكْرَ غضَبِ اللَّه على اليهود متكرِّر فيه؛ كقوله‏:‏ ‏{‏وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 112‏]‏ ‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّنْ ذلك مَثُوبَةً عِنْدَ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏ وغضب اللَّه تعالى، عبارة عن إظهاره عليهم محناً وعقوباتٍ وذِلَّةً، ونحو ذلك ممَّا يدلُّ على أنه قد أبعدهم عن رحمته بُعْداً مؤكَّداً مبالغاً فيه، والنصارى كان محقِّقوهم على شِرْعَةٍ قبل ورود شرعِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، فلما ورد، ضلُّوا، وأما غير متحقِّقيهم، فضلالتهم متقرِّرة منذ تفرَّقت أقوالهم في عيسى عليه السلام، وقد قال اللَّه تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَنْ سَوَاءِ السبيل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 77‏]‏‏.‏

وأجمع الناسُ على أنَّ عدد آي سورة الحمد سبْعُ آيات؛ العالمين آية، الرحيم آية، الدين آية، نستعين آية، المستقيم آية، أنعمت عليهم آية، ولا الضالين آية، وقد ذكرنا عند تفسير ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم‏}‏؛ أن ما ورد من خلاف في ذلك ضعيفٌ‏.‏

‏(‏القَوْلُ فِي «آمِينَ»‏)‏

روى أبو هريرة وغيره عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إِذَا قَالَ الإِمَامُ‏:‏ ‏{‏وَلاَ الضالين‏}‏؛ فَقُولُوا «آمِينَ»، فَإنَّ المَلاَئِكَةَ فِي السَّماءِ تَقُولُ‏:‏ «آميِنَ»، فَمَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ‏"‏‏.‏ * ت *‏:‏ وخرج مسلم وأبو داود والنسائيُّ من طريق أبي موسى رضي اللَّه عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، ثُمَّ ليُؤمَّكُمْ أَحَدُكُمْ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَالَ‏:‏ ‏{‏غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين‏}‏ فَقُولُوا‏:‏ «آمِينَ»، يُجِبْكُمُ اللَّهُ ‏"‏ الحديثَ‏.‏ انتهى‏.‏

ومعنى «آمِينَ»؛ عند أكثر أهل العلم‏:‏ اللَّهُمَّ، استجب، أو أجبْ يَا رَبِّ‏.‏

ومقتضى الآثار أنَّ كل داع ينبغي له في آخر دعائه أنْ يقول‏:‏ «آمِينَ»، وكذلك كل قارئ للحمدِ في غير صلاة، وأما في الصلاة، فيقولها المأموم والفَذُّ، وفي الإمام في الجهر اختلاف‏.‏

واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ ‏"‏، فقيل‏:‏ في الإجابة، وقيل‏:‏ في خلوص النية، وقيل‏:‏ في الوقت، والذي يترجَّح أنَّ المعنى‏:‏ فمن وافق في الوقْتِ مع خلوصِ النيةِ والإِقبالِ على الرغبة إِلى اللَّه بقلْبٍ سليمٍ فالإِجابة تتبع حينئذ؛ لأِنَّ من هذه حاله، فهو على الصراط المستقيم‏.‏

وفي «صحيح مُسْلِمٍ» وغيره عن أبي هريرة قال‏:‏ سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏"‏ قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ‏:‏ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ اللَّهُ؛ حَمِدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ‏:‏ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ اللَّهُ‏:‏ أثنى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ‏:‏ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ‏:‏ مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإذَا قَالَ‏:‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ‏:‏ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ‏:‏ اهدنا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ، قَالَ‏:‏ هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ‏"‏ انتهى، وعند مالك‏:‏ «فَهَؤُلاَءِ لِعَبْدِي»‏.‏

وأسند أبو بكر بن الخَطِيبِ عن نافعٍ عن ابن عُمَرَ قال‏:‏ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ، فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ ‏"‏ انتهى من «تَارِيخِ بَغْدَاد» ولم يذكر في سنده مَطْعَناً‏.‏

وقال ابن العربيِّ في «أحكامه»‏:‏ والصحيحُ عندي وجوبُ قراءتها على المأمومِ فيما أسر فيه، وتحريمها فيما جهر فيه، إذا سمع الإِمام لِمَا عليه من وجوب الإِنصاتِ والاِستماعِ، فإِنْ بَعُدَ عن الإِمام، فهو بمنزلة صلاة السرِّ‏.‏ انتهى‏.‏

نجز تفسير سورة الحَمْدِ، والحَمْدُ للَّه بجميع محامده كلِّها؛ ما علمْتُ منها، وما لم أَعْلَمْ‏.‏

سورة البقرة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الم‏}‏‏:‏ اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولَيْنِ؛ فقال الشَّعْبِيُّ، وسفيانُ الثوريُّ، وجماعةٌ من المحدِّثين‏:‏ هي سر اللَّه في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد اللَّه بعلمه، ولا يجب أن يُتكلَّم فيها، ولكن يؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت، وقال الجمهور من العلماء، بل يجب أن يُتكلَّم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرَّج عليها، واختلفوا في ذلك على اثنَيْ عَشَرَ قولاً‏.‏

فقال عليٌّ، وابن عَبَّاس رضي اللَّه عنهما‏:‏ الحروف المقطَّعة في القرآن‏:‏ هي اسم اللَّه الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها‏.‏

وقال ابن عبَّاس أيضًا‏:‏ هي أسماء اللَّه أقسم بها، وقال أيضًا‏:‏ هي حروف تدلُّ على‏:‏ أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَا اللَّهُ أرى، وقال قومٌ‏:‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ هي حسابُ أَبِي جَاد؛ لتدلَّ على مدَّة ملَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ كما ورد في حديث حُيَيِّ بن أَخْطب، وهو قول أبي العالية وغيره‏.‏

* ت *‏:‏ وإِليه مال السُّهَيْلِيُّ في «الرَّوْضِ الأُنُفِ»، فانظره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏‏:‏ الاسمُ من «ذَلِكَ»‏:‏ الذال، والألف، واللام؛ لبعد المشار إليه، والكاف للخطاب‏.‏

واختلف في «ذَلِكَ» هنا؛ فقيل‏:‏ هو بمعنى «هَذَا»، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن، وذلك أنه قد يشار بذلك إلى حاضرٍ تعلَّق به بعضُ غَيْبَةٍ، وقيل‏:‏ هو على بابه، إِشارةً إِلى غائب‏.‏

واختلفوا في ذلك الغائب؛ فقيل‏:‏ ما قد كان نزل في القرآن، وقيل غير ذلك؛ انظره‏.‏

و ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ لا شَكَّ فيه، و‏{‏هُدًى‏}‏‏:‏ معناه إِرشادٌ وبيانٌ، وقوله‏:‏ ‏{‏لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏‏:‏ اللفظ مأخوذ من «وقى»، والمعنى‏:‏ الذين يَتَّقُونَ اللَّه تعالى بامتثال أوامره، واجتناب معاصيه، كان ذلك وقايةً بينهم وبين عذابه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏‏:‏ معناه يُصَدِّقون، وقوله‏:‏ ‏{‏بالغيب‏}‏ قالت طائفةٌ‏:‏ معناه‏:‏ يُصَدِّقون، إِذا غَابُوا وَخَلَوْا، لا كالمنافقين الَّذين يؤمنون إذَا حضروا، ويكْفُرُونَ إِذا غابوا، وقال آخرون‏:‏ معناه‏:‏ يصدِّقون بما غاب عنهم مما أخبرتْ به الشرائعُ، وقوله‏:‏ ‏{‏يُقِيمُونَ الصلاة‏}‏ معناه‏:‏ يظهرونها ويثبتونها؛ كما يقال‏:‏ أُقِيمَتِ السُّوقُ‏.‏

* ت *‏:‏ وقال أبو عبد اللَّه النَّحْوِيُّ في اختصاره لتفسيرِ الطَّبَرِيِّ‏:‏ إِقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإِقبال عليها‏.‏ انتهى‏.‏

قال‏:‏ * ص *‏:‏ يقيمون الصلاةَ من التقويمِ؛ ومنه‏:‏ أَقَمْتُ العُودَ، أو الإِْدَامَةِ؛ ومنه‏:‏ قامتِ السُّوقُ، أو التشميرِ والنهوضِ؛ ومنه‏:‏ قام بالأمر‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏‏:‏ الرزْقُ عند أهل السنة ما صَحَّ الانتفاع به، حلالاً كان أو حرامًا، و‏{‏يُنفِقُونَ‏}‏‏:‏ معناه هنا‏:‏ يؤْتُونَ ما ألزمهُمُ الشرعُ من زكاةٍ، وما ندبهم إِلَيْهِ من غير ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ أولئك على هُدًى مِّنْ رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏‏:‏ اختلف المتأوِّلون من المراد بهذه الآية والتي قبلها، فقال قوم‏:‏ الآيتان جميعاً في جميع المؤمنينَ، وقال آخرون‏:‏ هما في مُؤْمِنِي أهْلِ الكتاب، وقال آخرون‏:‏ الآية الأولى في مُؤْمِنِي العربِ، والثانيةُ في مؤمني أهل الكتاب؛ كعبد اللَّه بن سَلاَمٍ؛ وفيه نزلت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِمَا أَنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏‏:‏ يعني القرآن، ‏{‏وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏، يعني‏:‏ الكتب السالفة، و‏{‏يُوقِنُونَ‏}‏ معناه‏:‏ يعلَمُونَ عِلْماً متمكِّناً في نفوسهم، واليقين أعلى درجات العلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هُدًى مِّنْ رَّبِّهِمْ‏}‏ إِشارة إِلى المذكورين، والهدى هنا‏:‏ الإِرشاد، والفلاحُ‏:‏ الظَّفَر بالبغية، وإدراك الأمل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ‏}‏ إلى ‏{‏عَظِيمٌ‏}‏‏:‏ اختلف فيمن نزلَتْ هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامَّة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها، فقال قوم‏:‏ هي فيمن سبق في علْمِ اللَّه، أنه لا يؤمِنُ، وقال ابن عَبَّاسٍ‏:‏ نزَلَتْ في حُيَيٍّ بْنِ أَخْطَبَ، وأَبِي ياسِرِ بنِ أَخْطَبَ، وكعب بن الأَشْرَفِ، ونظرائهم‏.‏

والقولُ الأول هو المعتمد عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ معناه‏:‏ معتدلٌ عندهم، والإِنذار‏:‏ إعلام بتخويف، هذا حدُّه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَتَمَ‏}‏‏:‏ مأخوذ من الخَتْم، وهو الطبعُ، والخاتَمُ‏:‏ الطابَعُ؛ قال في مختصر الطبريِّ‏:‏ والصحيح أن هذا الطبع حقيقة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ لا أنه مجاز؛ فقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ العَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً، نُكِتَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ، وَنَزَعَ واستغفر، صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ، زَادَتْ؛ حتى تَغَلَّقَ قَلْبُهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 14‏]‏» انتهى‏.‏

والغِشَاوَةُ‏:‏ الغطاء المغشي الساتر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ لِمخالفتِكَ يا محمَّد، وكفرِهِمْ باللَّهِ، و‏{‏عَظِيمٌ‏}‏‏:‏ معناه بالإضافة إِلى عذابٍ دونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 12‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏9‏)‏ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ‏(‏11‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بالله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلَى ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏ هذه الآية نزلت في المنافقين، وسَمَّى اللَّهُ تعالى يوم القيامة اليَوْمَ الآخِرَ؛ لأنه لا ليل بعده، ولا يقالُ يوم إِلا لما تقدَّمه ليل، واختلف المتأوِّلون في قوله‏:‏ ‏{‏يخادعون الله‏}‏، فقال الحسن بن أبي الحسن‏:‏ المعنى يُخَادِعُون رسول اللَّه، فأضافَ الأمرَ إلى اللَّه تجوُّزاً؛ لتعلُّق رسوله به، ومخادعتُهم هي تحيُّلهم في أن يُفْشِيَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إليهم أسرارهم‏.‏

* ع *‏:‏ تقول‏:‏ خادَعْتُ الرجُلَ؛ بمعنى‏:‏ أعملْتُ التحيُّل عليه، فَخَدَعْتُهُ، بمعنى‏:‏ تمَّت عليه الحيلة، ونفذ فيه المرادُ، وقال جماعةٌ‏:‏ بل يخادعون اللَّهَ والمؤمنين؛ بإِظهارهم من الإِيمان خلافَ ما أبطنوا من الكفر، وإِنما خدعوا أنفسهم؛ لحصولهم في العذاب، ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ بذلك، معناه‏:‏ وما يعلمون علْمَ تفطُّن وتَهَدٍّ، وهي لفظة مأخوذة من الشِّعَار؛ كأن الشيء المتفطَّن له شعار للنَّفْس، وقولهم‏:‏ لَيْتَ شِعْرِي‏:‏ معناه‏:‏ ليت فطنتي تُدْرِكُ‏.‏

واختلف، ما الذي نَفَى اللَّه عنهم أنْ يشعروا له‏؟‏ فقالت طائفة‏:‏ وما يَشْعُرُونَ أنَّ ضرَرَ تلْكَ المخادَعَةِ راجعٌ عليهم؛ لخلودهم في النَّار، وقال آخرون‏:‏ وما يَشْعُرُونَ أنَّ اللَّه يكشف لك سِرَّهم ومخادعتهم في قولهم‏:‏ ‏{‏ءَامَنَّا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏، أي‏:‏ في عقائدهم فسادٌ، وهم المنافقون، وذلك إما أن يكون شكًّا، وإما جحدًا بسبب حسدهم مع علمهم بصحَّة ما يجحدون، وقال قوم‏:‏ المَرَضُ غمُّهم بظهوره صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا‏}‏، قيل‏:‏ هو دعاءٌ عليهم، وقيل‏:‏ هو خبر أنَّ اللَّه قد فعل بهم ذلك، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحْيِ، ويظهر من البراهين‏.‏

* ت *‏:‏ لما تكلَّم‏.‏ * ع *‏:‏ على تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 6‏]‏‏.‏ قال‏:‏ كل ما كان بلفظ دعاء من جهة اللَّه عزَّ وجلَّ، فإِنما هو بمعنى إيجاب الشيء؛ لأنَّ اللَّه تعالى لا يدعو على مخلوقاته، وهي في قبضته، ومن هذا‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏، وهي كلها أحكام تامَّة تضمنها خبره تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏، أي‏:‏ مؤلم، ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض‏}‏ أي‏:‏ بالكفر وموالاةِ الكفرةِ؛ ولقول المنافقين‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ ثلاثُ تأويلاتٍ‏:‏

أحدها‏:‏ جحد أنهم يفسدون، وهذا استمرار منهم على النِّفاق‏.‏

والثاني‏:‏ أنّ يقروا بموالاة الكُفَّار ويدَّعون أنها صلاحٌ؛ من حيث هم قرابةٌ توصل‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم يصلحون بين الكفار والمؤمنين‏.‏

و «أَلاَ»‏:‏ استفتاحُ كلامٍ، و«لكن»‏:‏ حرف استدراك، ويحتمل أن يراد هنا‏:‏ لا يَشْعُرُونَ أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد‏:‏ لا يشعرون أن اللَّه يفْضَحُهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ‏(‏14‏)‏ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَا ءَامَنَ الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ المعنى‏:‏ صدِّقوا بمحمَّد وشرعه كما صدَّقَ المهاجرون والمحقِّقون من أهل يثرب، قالوا‏:‏ أنكون كالذين خَفَّت عقولهم، والسفه‏:‏ الخفَّة والرقَّة الداعيةُ إِلى الخفة، يقال‏:‏ ثوب سَفِيهٌ، إِذا كان رقيقًا هَلْهَلَ النَّسْجِ، وهذا القول إِنما كانوا يقولونه في خفاء، فَأَطْلَعَ اللَّه عليه نبيَّه عليه السلام، والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقَّة الحلوم وفساد البصائرِ إِنما هو في حيِّزهم وصفةٌ لهم، وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء لِلرَّيْنِ الَّذي على قلوبهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه كانت حالَ المنافقين‏:‏ إِظهارُ الإيمان للمؤمنين، وإِظهار الكفر في خلواتهم، وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم، ويَدَعُهُمْ في غمرة الاشتباه؛ مخافة أن يتحدَّثَ الناسُ عنه أنه يقتُلُ أصحابه حَسْبَمَا وقع في قِصَّة عبد اللَّه بن أُبَيٍّ ابْنِ سَلُول، قال مَالِكٌ‏:‏ النِّفَاقُ في عهد رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم هو الزندقةُ اليَوْمَ، واختلف المفسِّرون في المراد بشياطينهم، فقال ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما‏:‏ هم رؤساء الكفر، وقيل‏:‏ الكُهَّان، قال البخاريُّ‏:‏ قال مجاهدٌ‏:‏ ‏{‏إلى شياطينهم‏}‏، أي‏:‏ أصحابهم من المنافقين والمشركين‏.‏

قال‏:‏ * ص *‏:‏ شياطينهم‏:‏ جمع شيطانٍ، وهو كل متمرِّد من الجنِّ والإِنْسِ والدوابِّ‏.‏ قاله ابن عبَّاس، وأنثاه شيطانة‏.‏ انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ ويجب على المؤمن أن يجتنب هذه الأخلاق الذميمة، وقد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذُو الوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ» رواه أبو داود، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الدُّنْيَا، كَانَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ لِسَانَانِ مِنْ نَارٍ» انتهى‏.‏ من سنن أبي داود‏.‏

‏{‏الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ‏}‏‏:‏ اختلف المفسِّرون في هذا الاستهزاء، فقال جمهور العلماء‏:‏ هي تسمية العُقُوبة باسم الذَّنْب، والعربُ تستعمل ذلك كثيرًا، وقال قوم‏:‏ إن اللَّه سبحانه يفعل بهم أفعالاً هي في تأمل البَشَر هُزْءٌ؛ روي أنَّ النَّارَ تجمد كما تَجْمُدُ الإِهالة، فيمشون عليها، ويظنون أنها منجاة، فتخسف بهم، وما روي أن أبواب النَّار تفتح لهم، فيذهبون إِلى الخروج، نحا هذا المنحى ابنُ عَبَّاس والحسن‏.‏

* ت *‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قِيلَ ارجعوا وَرَاءَكُمْ فالتمسوا نُوراً‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏ يقوِّي هذا المنحى، وهكذا نص عليه في اختصار الطبريِّ‏.‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ استهزاؤه بهم هو استدراجُهُمْ بُدرُور النعم الدنيوية، و‏{‏يمدُّهم‏}‏، أي‏:‏ يزيدهم في الطغيان، وقال مجاهد‏:‏ معناه‏:‏ يملي لهم، والطغيان الغُلُوُّ وتعدِّي الحدِّ؛ كما يقال‏:‏ طَغَى المَاءُ، وَطَغَتِ النَّارُ و‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يتردَّدون حيرةً، والعَمَهُ الحَيْرَةُ من جهة النَّظَر، والعَامِهُ الذي كأنه لا يُبْصِرُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏17‏)‏ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ‏(‏18‏)‏ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ‏(‏19‏)‏ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس‏}‏‏:‏ قال الفَخْر‏:‏ اعلم أن المقصود من ضرب المِثَالِ أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفْسِهِ؛ لأن الغرض من المَثَل تشبيه الخَفِيِّ بِالجَلِيِّ، والغائب بالشاهدِ، فيتأكَّد الوقوفُ على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل؛ وذلك هو النهاية في الإِيضاح؛ ألا ترى أنَّ الترغيب والترهيب إِذا وقع مجرَّداً عن ضرب مَثَلٍ، لم يتأكَّد وقوعه في القلب؛ كتأكُّده مع ضرب المثل، ولهذا أكثر اللَّه تعالى في كتابه المبين، وفي سائر كتبه الأمثالَ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 21‏]‏ انتهى‏.‏

والمَثَل والمِثْل والمَثِيلُ واحدٌ، معناه‏:‏ الشبيه، قاله أهل اللغة‏.‏

و ‏{‏استوقد‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ معناه أوقد‏.‏

واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل الذي استوقد ناراً؛ فقالت فرقةٌ‏:‏ هي فيمن كان آمن، ثم كفر بالنفاقِ، فإِيمانه بمنزلة النار أضاءت، وكفره بعد بمنزلة انطفائها، وذهابِ النور، وقالت فرقةٌ، منهم قتادة‏:‏ نطقهم ب «لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» والقُرْآنِ كإِضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها، قال جمهورُ النحاة‏:‏ جواب «لَمَّا»‏:‏ «ذَهَبَ» ويعود الضمير من نورهم على «الذي»، وعلى هذا القولِ يتمُّ تمثيل المنافق بالمستوقِدِ؛ لأنَّ بقاء المستوقِدِ في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق؛ على الخلاف المتقدِّم‏.‏

وقال قومٌ‏:‏ جوابُ «لَمَّا» مضمرٌ، وهو «طُفِئَتْ»، فالضمير في «نُورِهِمْ» على هذا للمنافقين، والإخبار بهذا هو عن حال لهم تكونُ في الآخرة، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏ وهذا القول غير قويٍّ‏.‏

والأصم‏:‏ الذي لا يسمع، والأبكم‏:‏ الذي لا ينطق، ولا يفهم، فإِذا فهم، فهو الأخرس، وقيل‏:‏ الأبكم والأخرس واحدٌ، ووصفهم بهذه الصفات؛ إِذْ أعمالهم من الخطإ وعدم الإِجابة؛ كأعمال من هذه صفته‏.‏

و «صُمٌّ»‏:‏ رفع على خبر الابتداء، إما على تقدير تكرير «أُولَئِكَ»، أو إِضمارهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ‏}‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ لا يؤمنون بوجْهٍ، وهذا إنما يصح أنْ لو كانت الآية في معيَّنينِ، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ فهم لا يرجعونَ ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيحُ‏.‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ‏}‏‏:‏ «أَوْ»‏:‏ للتخيير، معناه مثِّلوهم بهذا أو بهذا، والصَّيِّبُ المَطَرُ؛ من‏:‏ صَابَ يَصُوبُ، إِذا انحط من عُلْو إِلى سُفْل‏.‏

و ‏{‏ظلمات‏}‏‏:‏ بالجمع‏:‏ إِشارة إِلى ظلمة الليل وظلمة الدجن، ومن حيث تتراكب وتتزيد جُمِعَتْ، وكون الدجن مظلماً هول وغم للنفوس؛ بخلاف السحاب والمطر، إذا انجلى دجنه، فإنه سارٌّ جميل‏.‏

واختلف العلماء في «الرَّعْدِ»، فقال ابن عباس ومجاهد وشَهْرُ بن حَوْشَبٍ وغيرهم‏:‏ هو مَلَكٌ يزجرُ السحابَ بهذا الصوتِ المسموعِ كلَّما خالفتْ سحابةٌ، صاح بها، فإِذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه، فهي الصواعقُ، واسم هذا الملك‏:‏ الرَّعْد‏.‏

وقيل‏:‏ الرَّعْدُ مَلَكٌ، وهذا الصوت تسبيحُهُ‏.‏

وقيل‏:‏ الرعد‏:‏ اسم الصوْتِ المسموعِ؛ قاله عليُّ بن أبي طالب‏.‏

وأكثر العلماء على أن الرعد ملكٌ، وذلك صوته يسبِّح ويزجرُ السحابَ‏.‏

واختلفوا في البَرْقِ‏.‏

فقال علي بن أبي طالب؛ وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هُوَ مِخْرَاقُ حَدِيدٍ بِيَدِ المَلَكِ يَسُوقُ بِهِ السَّحَابَ ‏"‏ وهذا أصحُّ ما روي فيه‏.‏

وقال ابن عبَّاس‏:‏ هو سَوط نور بيد المَلَكِ يزجي به السحَابَ، وروي عنه‏:‏ ‏"‏ أنَّ البرق ملَكٌ يتراءى ‏"‏

واختلف المتأوِّلون في المقْصِد بهذ المثل، وكيف تترتب أحوالُ المنافقينَ المُوَازِنَةُ لما في المَثَل من الظلماتِ والرعْدِ والبرقِ والصواعِقِ‏.‏

فقال جمهور المفسِّرين‏:‏ مَثَّلَ اللَّه تعالى القُرْآنَ بالصَّيِّبِ، فما فيه من الإشكال عليهم والعمى هو الظلماتُ، وما فيه من الوعيدِ والزجْرِ هو الرعْدُ، وما فيه من النُّور والحُجَج الباهرة هو البَرْقُ، وتخوُّفهم ورَوْعُهُمْ وحَذَرُهم هو جَعْلُ أصابعهم في آذانهم، وفَضْحُ نفاقهم، واشتهارُ كفرهم، وتكاليفُ الشرع التي يكرهونها من الجهادِ والزكاةِ ونحوه هي الصواعقُ، وهذا كله صحيحٌ بيِّن‏.‏

وقال ابنُ مسعود‏:‏ إِن المنافقين في مجلسِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم كانُوا يجعلون أصابعهم في آذانهم؛ لئلا يسمعوا القرآن، فضرب اللَّه المثل لهم، وهذا وفاقٌ لقول الجمهورِ‏.‏

و ‏{‏مُحِيطٌ بالكافرين‏}‏ معناه‏:‏ بعقابهم، يقال‏:‏ أحاط السلطان بفلانٍ، إِذا أخذه أخذًا حاصرًا من كل جهة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏‏.‏

و ‏{‏يَكَادُ‏}‏ فعل ينفي المعنى مع إِيجابه، ويوجبه مع النفي، فهنا لم يخطف البرق الأبصار، والخَطْفُ‏:‏ الانتزاعُ بسرعة، ومعنى ‏{‏يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم‏}‏، تكاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل البَرْقَ في المثل الزجْرَ والوعيدَ، قال‏:‏ يكاد ذلك يصيبهم‏.‏

و «كُلَّمَا»‏:‏ ظرفٌ، والعامل فيه «مَشَوْا»، و«قَامُوا» معناه‏:‏ ثَبَتُوا، ومعنى الآية فيما روي عن ابن عَبَّاس وغيره‏:‏ كلَّما سمع المنافقون القرآن، وظهرت لهم الحججُ، أنسوا ومشوا معه، فإذا نَزَلَ من القرآن ما يعمهون فيه، ويضلون به، أو يكلَّفونه، قاموا، أي‏:‏ ثَبَتُوا على نفاقهم‏.‏

وروي عن ابن مسعودٍ؛ أنَّ معنى الآية‏:‏ كلَّما صلُحَتْ أحوالهم في زروعهم ومواشِيهِمْ، وتوالَتْ عليهم النّعم، قالوا‏:‏ دين محمَّد دِينٌ مبارَكٌ، وإِذا نزلت بهم مصيبةٌ أَو أصابتهم شدَّة، سَخِطُوه وثَبَتُوا في نفاقهم‏.‏

ووحَّد السمع؛ لأنه مصدر يقع للواحد والجمع‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ لفظه العمومُ، ومعناه عند المتكلِّمين‏:‏ فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه، وقديرٌ بمعنى قَادِرٍ، وفيه مبالغةٌ، وخَصَّ هنا سبحانه صفتَهُ الَّتي هي القدرةُ بالذِّكُر؛ لأنه قد تقدَّم ذكر فعلٍ مضمَّنه الوعيدُ والإِخافةُ، فكان ذكر القدرة مناسباً لذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏21‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيَةَ‏:‏ «يَا»‏:‏ حرفُ نداءٍ، وفيه تنبيهٌ، و«أَيُّ» هو المنادى، قال مجاهد‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس‏}‏ حيث وقع في القرآن مَكِّيٌّ، و‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ‏}‏ مدنيٌّ‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ قد تقدَّم في أول السورة؛ أنها كلها مدنية، وقد يجيء في المَدَنِيِّ‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس‏}‏‏.‏

وأما قوله في‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ‏}‏ فصحيح‏.‏

‏{‏اعبدوا رَبَّكُمُ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ وحِّدوه، وخصوه بالعبادة، وذكر تعالى خلقه لهم؛ إِذ كانت العرب مقرة بأن اللَّه خلقها، فذكر ذلك سبحانه حجةً عليهم، ولعل في هذه الآية قال فيها كثيرٌ من المفسِّرين‏:‏ هي بمعنى إيجاب التقوى، وليست من اللَّه تعالى بمعنى ترجٍّ وتوقُّع، وفي «مختصر الطَّبَرِيِّ»‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ عن مجاهد، أي‏:‏ لعلَّكم تطيعون، والتقوَى التوقِّي من عذاب اللَّه بعبادته، وهي من الوقاية، وأما «لَعَلَّ» هنا، فهي بمعنى «كَيْ» أو «لامِ كَيْ»، أي‏:‏ لتتقوا، أوْ لكَيْ تتقوا، وليست هنا من اللَّه تعالى بمعنى الترجِّي، وإنما هي بمعنى كَيْ، وقد تجيء بمعنى «كَيْ» في اللغة؛ قال الشاعر‏:‏ ‏(‏الطويل‏)‏

وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا *** نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ

انتهى‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ وقال سيبويه‏:‏ ورؤساءُ اللِّسَان‏:‏ هي على بابها، والترجِّي والتوقُّع إنما هو في حيز البشر، أي‏:‏ إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم، رجَوْتُمْ لأنفسكم التقوى، و«لَعَلَّ»‏:‏ متعلِّقة بقوله‏:‏ «اعبدوا»، ويتجه تعلُّقها ب «خَلَقَكُمْ» أي‏:‏ لَمَّا وُلِدَ كلُّ مولود على الفطرة، فهو إِن تأمله متأمِّل، توقَّع له ورجا أن يكون متقياً، و«تَتَّقُونَ»‏:‏ مأخوذ من الوقاية، وجعل بمعنى «صَيَّرَ» في هذه الآية؛ لتعدِّيها إِلى مفعولين، و«فِرَاشاً» معناه‏:‏ تفترشونها، و«السَّمَاء» قيل‏:‏ هو اسم مفرد، جمعه سماوات، وقيل‏:‏ هو جمعٌ، واحده سَمَاوَة، وكلُّ ما ارتفع عليك في الهواء، فهو سماء، ‏{‏وَأَنزَلَ مِنَ السماء‏}‏ يريد السحاب، سمي بذلك تجوُّزاً؛ لَمَّا كان يلي السماء، وقد سَمَّوُا المطر سماءً للمجاورة؛ ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأَرْضِ قَوْمٍ *** رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا

فتجوز أيضاً في «رَعَيْنَاهُ»‏.‏

وواحد الأنداد نِدٌّ، وهو المقاوم والمضاهي، واختلف المتأوِّلون من المخاطب بهذه الآية، فقالتْ جماعة من المفسِّرين‏:‏ المخاطَبُ جميع المشركين، فقوله سبحانه على هذا‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ يريد العلم الخاصَّ في أنه تعالى خلق، وأنزل الماء، وأخرج الرزق، وقيل‏:‏ المراد كفَّار بني إسرائيل، فالمعنى‏:‏ وأنتم تعلَمُون من الكتب التي عندكم أنَّ اللَّه لا ندَّ له، وقال ابنْ فُورَكَ‏:‏ يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ‏}‏، أي‏:‏ في شكٍّ، ‏{‏فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ‏}‏‏:‏ الضمير في «مِثْلِهِ» عند الجمهور‏:‏ عائد على القرآن، ‏{‏وادعوا شُهَدَاءَكُم‏}‏، أي‏:‏ مَنْ شهدكم وحضركم من عون ونصير؛ قاله ابنُ عَبَّاس‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏، أي‏:‏ فيما قلتم من أنَّكم تقدرون على معارضته‏.‏

ويؤيِّد هذا القول ما حكي عنهم في آية أخرى‏:‏ ‏{‏لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 31‏]‏، وفي قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَلَنْ تَفْعَلُواْ‏}‏ إِثَارةٌ لِهِمَمِهِمْ، وتحريكٌ لنفوسهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار‏}‏‏:‏ أمر بالإيمانِ وطاعةِ اللَّه، قال الفَخْر ولما ظهر عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإِذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار، واتقاءُ النار يوجب ترك العناد؛ فأقيم قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا النار‏}‏ مُقَامَ قوله‏:‏ «واتركوا العِنَادَ»، ووصف النار بأنها تتقد بالناس والحجارة؛ وذلك يدلُّ على قوتها، نجَّانا اللَّه منها برحمته الواسعة‏.‏

وقرَنَ اللَّه سبحانه النَّاسَ بالحجارة؛ لأنهم اتخذوها في الدنيا أصناماً يعبدونها؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ فإحدى الآيتين مفسِّرة للأخرى، وهذا كتعذيب مانعي الزكاة بنوعِ ما منعوا، انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جنات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏بَشِّرْ‏}‏‏:‏ مأخوذ من البَشَرَةِ؛ لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثرٌ في بَشَرة الوجه، والأغلب استعمال البِشَارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيَّدة به؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 34‏]‏ ومتى أطلق لفظ البِشَارة، فإِنما يحمل على الخير، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ ردٌّ على من يقول‏:‏ إِن لفظة الإِيمان بمجرَّدها تقتضي الطاعاتِ؛ لأنه لو كان كذلك، ما أعادها، و‏{‏جنات‏}‏ جمع جَنَّة، وهي بستان الشجرِ والنخلِ، وبستانُ الكَرْم، يقال له الفِرْدَوسُ، وروى النسائي عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَنَّ ثِيَابَ الجَنَّةِ تَشَقَّقُ عَنْهَا ثَمَرُ الجَنَّةِ ‏"‏، وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ إِلاَّ وَسَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ ‏"‏، قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ انتهى من «التَّذْكِرَةِ»‏.‏

* ت *‏:‏ وفي الباب عن ابن عبَّاس، وجرِيرِ بن عبد اللَّهِ، وغيرهما‏:‏ وسمِّيتِ الجنةُ جنَّةً؛ لأنها تجنُّ من دخلها؛ أي‏:‏ تستره، ومنه المِجَنُّ، وَالْجَنَنُ، وجَنَّ اللَّيْلُ‏.‏

و ‏{‏مِنْ تَحْتِهَا‏}‏ معناه من تحت الأشجار التي يتضمَّنها ذِكْر الجنة‏.‏

* ت *‏:‏ ومن أعظم البِشَارات أنَّ هذه الأمة هم ثلثا أهْلِ الجنَّة، وقد خرَّج أبو بكر بن أبي شيبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إِنَّ أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ ثُلُثَا أَهْلِ الجَنَّةِ، إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، وَإِنَّ أُمَّتِي مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُونَ صَفًّا ‏"‏، وخرَّج ابن ماجه والترمذيُّ عن بُرَيْدة بن حُصَيْب قال‏:‏ قال رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَهْلُ الجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ؛ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ ‏"‏، قال أبو عيسى‏:‏ هذاحديث حسن‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ انتهى من «التذْكرة» للقرطبيِّ‏.‏

‏{‏والأنهارُ‏}‏‏:‏ المياه في مجاريها المتطاولة الواسعَةِ؛ مأخوذةٌ من أنْهَرْتُ، أي‏:‏ وسَّعت؛ ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسم اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوهُ ‏"‏ ومعناه‏:‏ ما وسع الذبح؛ حتى جرى الدم كالنهْرِ، ونسب الجري إِلى النهر، وإِنما يجري الماء تجوُّزاً؛ كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏واسأل القرية‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد؛ إِنما تجري على سطْح أرض الجنة منضبطةً‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏هذا الذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ‏}‏‏:‏ إِشارة إِلى الجنس، أي‏:‏ هذا من الجنس الذي رزقْنَا منه من قبل، والكلام يحتمل أن يكون تعجباً منهم، وهو قولُ ابنِ عَبَّاس، ويحتمل أن يكون خَبَراً من بعضهم لبعْضٍ؛ قاله جماعة من المفسِّرين، وقال الحسنُ، ومجاهدٌ‏:‏ يرزقُونَ الثمرةَ، ثم يرزقُونَ بعْدَها مثْلَ صورتها، والطَّعْم مختلفٌ، فهم يتعجَّبون لذلك، ويخبر بعضهم بعضاً، وقال ابن عبَّاس‏:‏ ليس في الجنة شيْءٌ ممَّا في الدنيا سوى الأسماءِ، وأما الذوات فمتباينة، وقال بعض المتأوِّلين‏:‏ المعنى أنهم يرون الثمر، فيميزون أجناسه حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون‏:‏ هذا الذي رزقْنَا مِنْ قبل في الدنيا، وقال قومٌ‏:‏ إن ثمر الجنة إِذا قطف منه شيء، خرج في الحين في موضعه مثله، فهذا إِشارة إِلى الخارج في موضع المجني‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏متشابها‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ معناه يشبه بعضه بعضاً في المنظر، ويختلف في الطعمِ، و‏{‏أزواج‏}‏‏:‏ جمع زوج، ويقال في المرأة‏:‏ زوجة، والأول أشهر، و‏{‏مُّطَهَّرَةٌ‏}‏‏:‏ أبلغ من طَاهِرَة، أي‏:‏ مُطَهَّرة من الحَيْض، والبُزَاق، وسائر أقذار الآدميَّات، والخلودُ‏:‏ الدوامُ، وخرَّج ابن ماجة عن أسامة بن زيد؛ قال‏:‏ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ذَاتَ يَوْمٍ لأَِصْحَابِهِ‏:‏ ‏"‏ أَلاَ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ‏؟‏ فَإِنَّ الجَنَّةَ لاَ خَطَرَ لَهَا؛ هِيَ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، نُورٌ يَتَلأْلأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ؛ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامِ أَبَدٍ فِي حَبْرةٍ وَنَضْرَةٍ، فِي دَارٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيَّةٍ ‏"‏، قَالُوا‏:‏ نَحْنُ المُشَمِّرُونَ لَهَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ «قُولُوا‏:‏ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، ثُمَّ ذَكَرَ الْجِهَادَ وَحَضَّ عَلَيْهِ» انتهى من «التذْكرَةِ»‏.‏

وقوله‏:‏ لا خَطَرَ لها؛ بفتح الطاء‏:‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ لا عِوَضَ لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏27‏)‏ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏28‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا‏}‏‏:‏ لما كان الجليلُ القدْرِ في الشاهد لا يمنعه من الخَوْضِ في نازل القوْلِ إِلا الحَيَاء من ذلكَ، رَدَّ اللَّه بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا‏}‏؛ على القائلين كيف يضرب اللَّه مثلاً بالذُّبَابِ ونحوه‏.‏

واختلف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا‏}‏، هل هو من قول الكافرين أو خبرٌ من اللَّه تعالى‏؟‏ ولا خلاف أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين‏}‏ من قول اللَّه تعالى، والفسْقُ‏:‏ الخروجُ عن الشيء، يقال‏:‏ فَسَقَتِ الفَأْرَةُ، إِذا خرجَتْ من جحرها، والرُّطَبَةُ، إِذا خرجَتْ من قِشْرها، والفِسْقُ في عرف استعمال الشرْعِ‏:‏ الخروجُ من طاعة اللَّه عزَّ وجلَّ بكُفْر أو عصيان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله‏}‏‏:‏ النَّقْضُ‏:‏ ردُّ ما أبرم على أوله غير مبرمٍ، والعهدُ‏:‏ في هذه الآية‏:‏ التقدُّم في الشيء، والوَصَاةُ به، وظاهرٌ مما قبل وبعد أنه في جميع الكُفَّار‏.‏

* ع *‏:‏ وكل عهد جائزٌ بيْنَ المسلمين، فنقضه لا يحلُّ بهذه الآية، والخاسر الذي نَقَصَ نفسه حظَّها من الفلاحِ والفوزِ، والخسرانُ النقْصُ، كان في ميزانٍ أو غيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله‏}‏‏:‏ هو تقريرٌ وتوبيخٌ، أي‏:‏ كيف تَكْفُرون، ونعمه عليكم وقدرته هذه، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ‏}‏ واو الحال‏.‏

واختلف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُنتُمْ أمواتا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

فقال ابن عبَّاس، وابن مسعود، ومجاهد‏:‏ المعنى‏:‏ كنتم أمواتاً معدومِينَ قبل أن تخلقوا دارسين؛ كما يقال للشيء الدَّارِسِ‏:‏ ميِّت، ثم خلقكم وأخرجكم إِلى الدنيا، فأحياكم، ثم يميتكم الموتَ المعهُودَ، ثم ‏(‏يحييكم‏)‏ للبَعْثِ يوم القيامة، وهذا التأويل هو أولى ما قيل؛ لأنه هو الذي لا محيد للكفار عن الإِقرار به، والضميرُ في «إِلَيْهِ» عائد على اللَّه تعالى، أي‏:‏ إلى ثوابه أو عقابه، و‏{‏خَلَقَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ اخترع، وأوجد بعد العدمِ، و‏{‏لَكُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ لِلاِعتبار؛ ويَدُلُّ عليه ما قبله وما بعده من نَصْب العِبَرِ‏:‏ الإِحياء والإِماتة والاستواء إلى السماء وتسويتِها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏‏:‏ «ثُمَّ» هنا‏:‏ لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر في نفسه، و‏{‏استوى‏}‏‏:‏ قال قومٌ‏:‏ معناه‏:‏ علا دون كَيْفٍ، ولا تحديدٍ، هذا اختيار الطبريِّ، والتقديرُ‏:‏ علا أمره وقدرته وسلطانه، وقال ابن كَيْسَان‏:‏ معناه‏:‏ قصد إلى السماء‏.‏

* ع*‏:‏ أي‏:‏ بخلقه، واختراعه، والقاعدةُ في هذه الآية ونحوها منع النّقْلَة وحلولِ الحوادثِ، ويبقى استواءُ القدرةِ والسلطان‏.‏

و ‏{‏سَوَّاهُنَّ‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ جعلهن سواءً، وقيل‏:‏ سوى سطوحَهُنَّ بالإملاس، وقال الثعلبيُّ‏:‏ ‏{‏فَسَوَّاهُنَّ‏}‏، أي‏:‏ خلقهن‏.‏ انتهى‏.‏ وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خُلِقَ قبل السماء، وذلك صحيحٌ، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات هذه والتي في سورة «المُؤْمِنِ»، وفي «النازعات»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏ وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً‏}‏‏:‏ «إِذْ» ليست بزائدةٍ عند الجمهور، وإِنما هي معلَّقة بفعل مقدَّر، تقديره‏:‏ واذكر إِذ قال، وإِضافةُ «رَبٍّ» إِلى محَّمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومخاطبتُهُ بالكاف تشريفٌ منه سبحانه لنبيِّه، وإِظهار لاِختصاصه به، و«الملائكةُ»‏:‏ واحدها ملَكٌ، والهاء في «ملائكة» لتأنيث الجُموعِ غير حقيقيٍّ، وقيل‏:‏ هي للمبالغة؛ كَعَلاَّمَةٍ وَنسَّابَةٍ، والأول أبين‏.‏

و ‏{‏جَاعِلٌ‏}‏؛ في هذه الآية بمعنى خَالِقٍ، وقال الحسن وقتادة‏:‏ جاعلٌ بمعنى فاعل، وقال ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الأَرْضَ هُنَا هِيَ مَكَّةُ؛ لأَنَّ الأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا؛ وَلأنَّهَا مَقَرُّ مَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ قَبْرَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ بَيْنَ المَقَامِ وَالرُّكْنِ ‏"‏

و ‏{‏خَلِيفَةً‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ من يخلف‏.‏

قال ابن عبَّاس‏:‏ كانت الجن قبل بني آدم في الأرص، فأفسدوا، وسَفَكُوا الدماء، فبعث اللَّه إِليهم قبيلاً من الملائكة قتلهم، وألْحَقَ فَلَّهُمْ بجزائرِ البحار، ورؤوسِ الجبالِ، وجعل آدم وذريته خليفةً، وقال ابن مسعود‏:‏ إنما معناه‏:‏ خليفةٌ مني في الحُكْمِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏ الآيةَ‏:‏ قد علمنا قطعًا أن الملائكة لا تعلم الغيْبَ، ولا تسبق القول، وذلك عَامٌّ في جميع الملائكة، لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 27‏]‏ خرج على جهة المدح لهم، قال القاضي ابن الطَّيِّب‏:‏ فهذه قرينة العموم، فلا يصح مع هذين الشرطَيْن إِلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة نبأٌ ومقدِّمة‏.‏

قال ابن زيد وغيره‏:‏ إن اللَّه تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكونُ من ذريته قومٌ يفسدونَ، ويسفكون الدماء؛ فقالوا لذلك هذه المقالةَ‏:‏ إِما على طريق التعجُّب من استخلاف اللَّه من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفُهُ اللَّهُ في أرضه وينعم علَيْه بذلك، وإِما على طريق الاِستعظامِ والإِكبار للفصلَيْن جميعاً؛ الاستخلاف، والعصيان‏.‏

وقال أحمد بن يَحْيَى ثَعْلَبٌ وغيره‏:‏ إنما كانت الملائكة قد رأَتْ، وعلمت ما كان من إفساد الجِنِّ، وسفكهم الدماء في الأرض؛ فجاء قولهم‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية؛ على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة يا ربَّنَا على طريقة من تقدَّم من الجِنِّ أم لا‏؟‏

وقال آخرون‏:‏ كان اللَّه تعالى قد أعلم الملائكة؛ أنه يخلق في الأرضِ خلْقاً يفسدون، ويسفكون الدماء، فلما قال لهم سبحانه بعد ذلك‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ‏}‏ قالوا‏:‏ رَبَّنَا ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ؛ على جهة الاسترشاد والاستعلام، هل هذا الخليفةُ هو الذي كان أعلمهم به سبحانه قبل، أو غيره‏؟‏ ونحو هذا في «مختصر الطبريِّ»، قال‏:‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا‏}‏ ليس بإنكار لفعله عز وجلَّ وحكمه، بل استخبارٌ، هل يكون الأمر هكذا، وقد وجَّهه بعضهم بأنهم استعظموا الإِفسادَ وسفْكَ الدماء؛ فكأنهم سألوا عن وجه الحكمة في ذلك؛ إِذ علموا أنه عز وجل لا يفعل إِلا حكمة‏.‏

انتهى‏.‏

* ت *‏:‏ والعقيدة أن الملائكة معصومون، فلا يقع منهم ما يوجب نقصانًا من رتبتهم، وشريف منزلتهم صلوات اللَّه وسلامُهُ على جميعهم والسفك صبُّ الدَّمِ، هذا عُرْفُه، وقولهم‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏‏.‏

قال بعض المتأوّلين‏:‏ هو على جهة الاستفهام؛ كأنهم أرادوا‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏ الآيةَ، أم نتغير عن هذه الحال‏؟‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحْضِ في قولهم‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ‏}‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معناه‏:‏ التمدُّح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم؛ كما قال يوسُفُ‏:‏ ‏{‏إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏، وهذا يحسن مع التعجُّب والاستعظام؛ لأَِنْ يستخلف اللَّه من يعصيه في قولهم‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ‏}‏، وعلى هذا أدَّبهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏، ومعنى‏:‏ ‏{‏نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ‏}‏‏:‏ ننزِّهك عما لا يليق بصفاتك، وقال ابن عبَّاس وابن مسعود‏:‏ تسبيحُ الملائكةِ صلاتهم للَّه سبحانه، وقال قتادةُ‏:‏ تسبيحهم قولهم‏:‏ «سبحانَ اللَّهِ»؛ على عرفه في اللغة، و‏{‏بِحَمْدِكَ‏}‏‏:‏ معناه نَصِلُ التسبيح بالحمدِ، ويحتمل أن يكون قولهم‏:‏ ‏{‏بِحَمْدِكَ‏}‏ اعتراضا بين الكلامين؛ كأنهم قالوا‏:‏ ونحن نسبِّح ونقدِّس، وأنت المحمود في الهداية إِلى ذلك، وخرَّج مسلم في صحيحه عن أبي ذَرٍّ؛ قال‏:‏ قال لِي رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تعالى‏؟‏ إِنَّ أَحَبَّ الكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تعالى‏:‏ «سبحان الله وَبِحَمْدِهِ» ‏"‏، وفي رواية‏:‏ ‏"‏ سُئِلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلَّم، أَيُّ الكَلاَمِ أَفْضَلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا اصطفى اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ‏"‏ وفي صحيحَي البخاريِّ ومسلم عن أبي هُرَيْرَة؛ قال‏:‏ قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ ‏"‏ وهذا الحديثُ به ختم البخاريُّ رحمه اللَّه‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏‏:‏ قال الضَّحَّاك وغيره‏:‏ معناه‏:‏ نُطَهِّرُ أنفسنا لك؛ ابتغاء مرضاتك، والتقديسُ‏:‏ التطهير بلا خلافٍ، ومنه الأرض المقدَّسة، أي‏:‏ المطهَّرة، وقال آخرون‏:‏ ‏{‏وَنُقَدِّسُ لَكَ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ نقدِّسك، أي‏:‏ نعظِّمك ونطهِّر ذكرك ممَّا لا يليقُ به، قاله مجاهد وغيره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

قال ابن عبَّاس‏:‏ كان إِبليس لعنه اللَّه قد أُعْجِبَ بنفسه، ودخله الكِبْرُ لما جعله اللَّه خَازِنَ السماء الدنيا، واعتقد أن ذلك لمزيَّة له، فلما قالت الملائكة‏:‏ ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك، وهي لا تعلم أنَّ في نفْسِ إِبليسَ خلافَ ذلك، قال اللَّه سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني ما في نفس إِبْلِيسَ‏.‏

وقال قتادة‏:‏ لما قالتِ الملائكةُ‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا‏}‏، وقد علم اللَّه أنَّ في مَنْ يستخلفُ في الأرض أنبياءَ وفضلاءَ وأهلَ طاعةٍ، قال لهم‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏، يعني‏:‏ أفعالَ الفضلاءِ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسماء كُلَّهَا‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ عرَّف، وتعليم آدم هنا عند قومٍ إِلهامُ علمه ضرورةً، وقال قوم‏:‏ بل تعليمٌ بقولٍ؛ إما بواسطة مَلَكٍ، أو بتكليمٍ قبل هبوطه الأرضَ، فلا يشارك موسى عليه السلام في خَاصَّته‏.‏

* ت *‏:‏ قال الشيخ العارفُ باللَّه عبد اللَّه بن أبي جَمْرَةَ‏:‏ تعليمه سبحانه لآِدم الأسماء كلَّها، إِنما كان بالعلْم اللدنيِّ بلا واسطة‏.‏ انتهى من كتابه الذي شرح فيه بعض أحاديث البخاريِّ، وكل ما أنقله عنه، فمنه، واختلف المتأوِّلون في قوله‏:‏ ‏{‏الأسماء‏}‏‏:‏ فقال جمهور الأُمَّة‏:‏ علَّمه التسميات، وقال قومٌ‏:‏ عرض عليه الأشخاص، والأول أبين؛ ولفظة عَلَّمَ تعطي ذلك‏.‏

ثم اختلف الجمهورُ في أيِّ الأسماء علَّمه، فقال ابن عبَّاسٍ، وقتادة، ومجاهدٌ‏:‏ علَّمه اسم كلِّ شيء من جميع المخلوقات؛ دقيقها، وجليلها، وقال الطبريُّ‏:‏ علَّمه أسماء ذريته، والملائكة؛ ورجَّحه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَرَضَهُمْ‏}‏ وقال أكثر العلماء‏:‏ عَلَّمه تعالى منافعَ كلِّ شيء، ولما يصلَح‏.‏

وقيل غير هذا‏.‏

واختلف المتأوِّلون، هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص‏؟‏‏.‏

‏{‏وأَنْبِئُونِي‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أخبروني، والنبأ‏:‏ الخبر، وقال قوم‏:‏ يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليفُ ما لا يطاقُ، ويتقرَّر جوازه؛ لأنه سبحانه عَلِمَ أنهم لا يعلمون‏.‏

وقال المحقِّقون من أهل التأويل‏:‏ ليس هذا على جهة التكليفِ، إِنما هو على جهة التقرير والتوقيف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَؤُلاَءِ‏}‏ ظاهره حضورُ أشخاصٍ، وذلك عند العرض على الملائكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ أن الاسم هو المسمى؛ كما ذهب إِليه مَكِّيٌّ والمَهْدَوِيُّ‏.‏

والذي يظهر أن اللَّه تعالى علَّم آدم الأسماء، وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصاً، ثم عرض تلك على الملائكة، وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلَّمها آدم، ثم إِن آدم قال لهم‏:‏ هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا‏.‏

‏{‏وهَؤُلاَءِ‏}‏‏:‏ مبنيٌّ على الكسر، ‏{‏وَكُنْتُمْ‏}‏ في موضع الجزمِ بالشرْطِ، والجواب عند سيبويه‏:‏ فيما قبله، وعند المبرِّد‏:‏ محذوفٌ؛ تقديره‏:‏ إِن كنتمْ صادِقِينَ، فَأَنْبِئوني، وقال ابن عبَّاس وابن مسعود وناسٌ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ معنى الآية‏:‏ إِنْ كنتم صادِقِينَ في أنَّ الخليفةَ يُفْسِدُ ويسفك‏.‏

* ت *‏:‏ وفي النفس من هذا القول شيءٌ، والملائكة منزَّهون معصومون؛ كما تقدَّم، والصواب ما تقدَّم من التفسير عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إِن كنتم صادِقِينَ في أنِّي إِن استخلفتكم، سبَّحتم بحَمْدِي، وقدَّستم لي‏.‏

وقال قوم‏:‏ معناه‏:‏ إن كنتم صادقين في جوابِ السؤالِ، عالمين بالأسماء‏.‏

و ‏{‏سبحانك‏}‏‏:‏ معناه تنزيهاً لك وتبرئةً أنْ يعلم أحدٌ من علمك إِلا ما علمته، والعَلِيمُ‏:‏ معناه‏:‏ العَالِمُ، ويزيد عليه معنى من المبالغةِ والتكثيرِ في المعلوماتِ، والحكيمُ‏:‏ معناه‏:‏ الحاكِمُ وبينهما مزية المبالغةِ، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ المُحْكِمُ، وقال قوم‏:‏ الحَكِيمُ المانعُ من الفساد، ومنه حَكَمَةُ الفرسِ مانعته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا ءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ‏}‏‏:‏ أَنْبِئْهُمْ‏:‏ معناه‏:‏ أخبرهم، والضمير في «أَنْبِئْهُمْ» عائدٌ على الملائكة بإجماعٍ، والضميرُ في «أَسْمَائِهِمْ» مختلَفٌ فيه حَسَبَ الاختلاف في الأسماء التي علَّمها آدم، قال بعض العلماء‏:‏ إنَّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَنبَأَهُم‏}‏ نبوءةً لآدم عليه السلام؛ إِذ أمره اللَّه سبحانه أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم اللَّه عز وجَلَّ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ما غاب عنكم؛ لأنَّ اللَّه تعالى لا يغيبُ عنه شيء، الكلُّ معلوم له‏.‏

واختلف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏‏.‏

فقال طائفة‏:‏ ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع، «وإِذْ» من قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا للملائكة‏}‏ معطوفةٌ على «إذِ» المتقدِّمة، وقولُ اللَّه تعالى وخطابه للملائكةِ متقرِّر قديم في الأَزَلِ؛ بشرط وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في أوامر اللَّه تعالى ونواهيه ومخاطباته‏.‏

* ت *‏:‏ ما ذكره رحمه اللَّه هو عقيدةُ أهل السنة، وها أنا أنقل من كلام الأئمة، إن شاء اللَّه، ما يتبيَّن به كلامه، ويزيده وضوحاً، قال ابن رُشْدٍ‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ‏"‏ لا يفهم منه أن للَّه عز وجلَّ كلماتٍ غَيْرَ تامَّات؛ لأن كلماته هي قوله، وكلامه هو صفةٌ من صفات ذاتِهِ يستحيلُ عليها النقص، وفي الحديث بيانٌ واضحٌ على أن كلماته عز وجل غير مخلوقة إذ لا يستعاذ بمخلوقٍ، وهذا هو قول أهل السنة، والحقّ أن كلام اللَّه عزَّ وجلَّ صفة من صفات ذاته قديمٌ غيرُ مخلوقٍ؛ لأن الكلام هو المعنى القائِمُ في النفسِ، والنطقُ به عبارةٌ عنه؛ قال اللَّه عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ فِى أَنْفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 8‏]‏ فأخبر أن القول معنًى يقوم في النفْسِ، وتقول‏:‏ في نَفْسِي كَلاَمٌ، أريد أن أعلمك به، فحقيقة كلام الرجل هو المفهومُ من كلامه، وأما الذي تسمعه منه، فهو عبارةٌ عنه؛ وكذلك كلام اللَّه عز وجلَّ القديمُ الذي هو صفة من صفاتِ ذاته هو المفهومُ من قراءة القارئ لا نَفْسُ قراءته التي تسمعها؛ لأنَّ نفس قراءته التي تسمعها مُحْدَثَةٌ، لم تكن؛ حتى قرأ بها، فكانت، وهذا كله بيِّن إلا لمن أعمى اللَّه بصيرته‏.‏ انتهى بلفظه من «البَيَانِ»‏.‏

وقال الغَزَّالِيُّ بعد كلامٍ له نحو ما تقدَّم لابن رشد‏:‏ وكما عقل قيامُ طلبِ التعلُّم وإرادته بذات الوالدِ قبل أن يخلق ولده؛ حتى إذا خلق ولده، وعقل، وخلق اللَّه سبحانه له علْماً بما في قلْب أبيه من الطَّلَب، صار مأموراً بذلك الطلب الذي قام بذاتِ أبيه، ودام وجوده إِلى وقت معرفة ولده، فليعقل قيام الطلب الذي دلَّ عليه قوله عزَّ وجلَّ‏:‏

‏{‏فاخلع نَعْلَيْكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 12‏]‏ بذات اللَّه تعالى، ومصير موسى عليه السلامُ سَامِعاً لذلك الكلامِ مخاطَباً به بعد وجوده؛ إذ خلقت له معرفة بذلك الطلبِ، ومعرفةُ بذلك الكلامِ القديمِ‏.‏ انتهى بلفظه من «الإحياء»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏للملائكة‏}‏ عمومٌ فيهم، والسجودُ في كلام العرب‏:‏ الخضوعُ والتذلُّل، وغايته وضع الوجْه بالأرض، والجمهور على أنَّ سجود الملائكة لآدم إيماءٌ وخضوعٌ، ولا تدفع الآية أنْ يكونوا بلغوا غاية السجود، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29‏]‏ لا دليل فيه؛ لأن الجاثي على ركبتيه واقعٌ، واختُلِفَ في حال السجودِ لآدم‏.‏

فقال ابن عَبَّاسٍ‏:‏ تعبَّدهم اللَّه بالسجود لآدم، والعبادةُ في ذلك للَّهِ، وقال عليُّ بن أبي طالب، وابنُ مسعودٍ، وابنُ عبَّاس أيضاً‏:‏ كان سجودَ تحيَّة؛ كسجود أبوَيْ يوسُفَ عليه السلام له، لا سجودَ عبادة، وقال الشَّعبيُّ‏:‏ إنما كان آدم كالقِبْلة، ومعنى ‏{‏لأَدَمَ‏}‏‏:‏ إلى آدَمَ‏.‏

* ع *‏:‏ وفي هذه الوجوهِ كلِّها كرامةٌ لآدم عليه السلام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ نصبٌ على الاستثناءِ المتَّصِلِ؛ لأنه من الملائكة على قول الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازناً ومَلَكاً على سماء الدنْيا والأرض، واسمه عَزَازِيلُ؛ قاله ابن عباس‏.‏

وقال ابن زيد والحسن‏:‏ هو أبو الجِنِّ كما آدمُ أبو البشر، ولم يكُ قطُّ ملَكاً، وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضاً، قال‏:‏ واسمه الحارثُ‏.‏

وقال شَهْرُ بن حَوْشَبٍ‏:‏ كان من الْجِنِّ الذين كانوا في الأرض، وقاتلتهم الملائكةُ فسَبَوْهُ صغيراً، وتعبَّد مع الملائكة، وخُوطِبَ معها، وحكاه الطبريُّ عن ابن مسعود‏.‏

والاستثناءُ على هذ الأقوال منقطعٌ؛ واحتجَّ بعض أصحاب هذا القول؛ بأن اللَّه تعالى قال في صفة الملائكة‏:‏ ‏{‏لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏ ورجَّح الطبريُّ قَوْلَ من قال‏:‏ إن إِبليسَ كان من الملائكَةِ، وقال‏:‏ ليس في خلقه مِنْ نارٍ، ولا في تركيبِ الشَّهْوَةِ والنسلِ فيه حينَ غُضِبَ عليه ما يدْفَعُ أنه كان من الملائكة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ يتخرَّج على أنه عمل عملهم، فكان منهم في هذا، أو على أن الملائكة قد تسمى جِنًّا؛ لاستتارها؛ قال اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏ وقال الأعشى في ذكر سليمانَ عليه السلام‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ المَلاَئِكِ تِسْعَةً *** قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلونَ بِلاَ أَجْرِ

أو على أن يكون نسبه إلى الجَنَّةِ؛ كما ينسب إلى البَصْرَةِ بِصْرِيَّ‏.‏

قال عِيَاضٌ‏:‏ ومما يذكرونه قصَّةُ إبليس، وأنه كان من الملائكة، ورئيساً فيهم، ومن خُزَّان الجَنَّة إلى ما حكَوْه، وهذا لم يتفقْ عليه، بل الأكثر ينفون ذلك، وأنه أبو الجن‏.‏ انتهى من «الشِّفا»‏.‏

وإِبْلِيسُ‏:‏ لا ينصرفُ؛ لأنه اسم أعجميٌّ؛ قال الزَّجَّاج‏:‏ ووزنه فِعْلِيلُ، وقال ابن عبَّاس وغيره‏:‏ هو مشتقٌّ من أُبْلِسَ، إِذا أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفْعِيلُ، ولم تصرفه هذه الفرقةُ؛ لشذوذه وقلَّته، ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏ أيْ‏:‏ يائسون من الخَيْر، مبعدُونَ منه فيما يَرَوْنَ، و‏{‏أبى‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ امتنَعَ من فعْلِ ما أمر به، ‏{‏واستكبر‏}‏‏:‏ دخل في الكبرياءِ، والإبَاءَةُ مقدَّمة على الاِستكبارِ في ظهورهما عليه، والاستكبارُ والأَنَفَة مقدَّمة في معتقده، وروى ابْنُ القاسم عن مَالكٍ؛ أنه قال‏:‏ بَلَغَنِي أنَّ أوَّلَ معْصيَةٍ كانت الحسدُ، والكِبْرُ، والشُّحُّ، حسد إِبليسُ آدم، وتكبَّر، وشحَّ آدم في أكله من شجرة قد نُهِيَ عن قربها‏.‏

* ت *‏:‏ إِطلاق الشحِّ على آدم فيه ما لا يخفى عليك، والواجب اعتقاد تنزيه الأنبياء عن كل ما يحُطُّ من رتبتهم، وقد قال اللَّه تعالى في حق آدَمَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ مِنَ الكافرين‏}‏‏:‏ قالت فِرقَةٌ‏:‏ معناه‏:‏ وصار من الكافرين، وردَّه ابن فُورَكَ، وقال جمهور المتأوِّلين‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ مِنَ الكافرين‏}‏، أيْ‏:‏ في علْمِ اللَّهِ تعالى، وقال أبو العالية‏:‏ معناه‏:‏ من العاصين، وذهب الطبريُّ إِلى أن اللَّه تعالى أراد بقصة إبْلِيسَ تقريعَ أشباهه من بني آدم، وهم اليهودُ الذين كفروا بمحمَّد صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بنبوءته، ومع تقدُّم نعم اللَّه عليهم، وعلى أسلافهم‏.‏

* ت *‏:‏ ولفظ الطبريِّ‏:‏ وفي هذا تقريعٌ لليهود؛ إذ أبوا الإسلام مع علمهم بنبوءة رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من التوارة والكُتُبِ؛ حَسَداً له، ولبني إِسماعيل؛ كما امتنع إِبليسُ من السجود؛ حَسَداً لآدَم وتكبُّراً عن الحق وقبولِهِ، فاليهود نظراء إِبْليسَ في كُفْرهم وكِبْرهم وحَسَدهم وتَرْكِهِمْ الانقيادَ لأمر اللَّه تعالى‏.‏ انتهى من «مختصر الطبريِّ» لأبي عبد اللَّه اللَّخْمِيِّ النحْويِّ‏.‏

واختلف، هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً‏؟‏ على قولَيْن بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالماً باللَّه قبل كفره، ولا خلاف أن اللَّه تعالى أخرج إبليس عند كفره، وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم‏:‏ ‏{‏اسكن‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلْنَا يَا ءادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة‏}‏‏:‏ ‏{‏اسكن‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ لاَزِمِ الإقامةَ، ولفظه لفظ الأمر، ومعناه الإِذن، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام، هل هي جنةُ الخُلْدِ، أو جنةٌ أخرى‏.‏

* ت *‏:‏ والأول هو مذهب أهل السنة والجماعة‏.‏

‏{‏وَكُلاَ مِنْهَا‏}‏، أي‏:‏ من الجنةِ، والرغَد‏:‏ العيشَ الدارَّ الهنيَّ، و«حَيْثُ» مبنيةٌ على الضمِّ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة‏}‏‏:‏ معناه لا تقرباها بأكْلٍ، والهاءُ في «هَذِهِ» بدلٌ من الياء، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرةٍ معيَّنة واحدة، واختلف في هذه الشجرة، ما هي‏؟‏ فقال ابن عَبَّاس، وابن مسعود‏:‏ هي الكَرْم، وقيل‏:‏ هي شجرة التِّين، وقيل‏:‏ السنبلة وقيل غير ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَا مِنَ الظالمين‏}‏‏:‏ الظالمُ؛ في اللغة‏:‏ الذي يضع الشيء في غير موضعه، والظلم؛ في أحكام الشرع على مراتب‏:‏ أعلاها الشِّرْكُ، ثم ظُلْمُ المعاصِي؛ وهي مراتبُ، و‏{‏أَزَلَّهُمَا‏}‏‏:‏ مأخوذ من الزَّلَلِ، وهو في الآية مجازٌ؛ لأنه في الرأْي والنَّظر، وإنما حقيقة الزَّلَلِ في القَدَمِ، وقرأ حمزة‏:‏ «فأَزَالَهُمَا» مأخوذ من الزوالِ، ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعينَ هو متولِّي إغواء آدم عليه السلام، واختلف في الكيفيَّة‏.‏

فقال ابن عباس، وابن مسعود، وجمهور العلماء‏:‏ أغواهما مشافهةً؛ بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَاسَمَهُمَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 21‏]‏ والمقاسمة ظاهرها المشافهةُ‏.‏

وقالت طائفةٌ‏:‏ إن إبليس لم يدخُلِ الجنةَ بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانِهِ، وسُلْطَانه، ووَسَاوِسِهِ التي أعطاه اللَّه تعالى، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابن آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ ‏"‏‏.‏ * ت *‏:‏ وإلى هذا القوْلِ نَحَا المَازِرِيُّ في بعض أجوبته، ومن ابتلي بشيء من وسوسة هذا اللعينِ؛ فأعظم الأدوية له الثقَةُ باللَّه، والتعوُّذ به، والإعراض عن هذا اللعين، وعدمُ الالتفاتِ إليه، ما أمكن؛ قال ابن عطاءِ اللَّه في «لَطَائِفِ المِنَنِ»‏:‏ كان بي وسواسٌ في الوضوءِ، فقال لي الشيخُ أبو العبَّاس المُرْسِيُّ‏:‏ إن كنت لا تترك هذه الوسوسةَ لا تَعْدُ تَأْتِينَا، فَشَقَّ ذلك علَيَّ، وقطع اللَّه الوسواسَ عني، وكان الشيخ أبو العباس يُلَقِّنُ للوسواسِ‏:‏ سُبْحَانَ المَلِكِ الخَلاَّقِ، ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 16، 17‏]‏ انتهى‏.‏

قال عِيَاضٌ‏:‏ في «الشِّفا»؛ وأما قصة آدم عليه السلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَكَلاَ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏ بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏ وتصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله‏:‏ ‏{‏وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏ أي‏:‏ جهل، وقيل‏:‏ أخطأ، فإن اللَّه تعالى قد أخبر بعذره بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءَادَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏ قال ابن عبَّاس‏:‏ نسي عداوة إِبليس، وما عهد اللَّه إِليه من ذلك؛ بقوله‏:‏

‏{‏إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 117‏]‏ الآيَة، وقيل‏:‏ نسي ذلك بما أظهر لهما، وقال ابن عباس‏:‏ إنما سمي الإنسان إنساناً؛ لأنه عهد إِليه فنسي، وقيل‏:‏ لم يقصد المخالفة؛ استحلالا لها، ولكنهما اغترا بِحَلِفِ إِبليس لهما‏:‏ ‏{‏إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 21‏]‏ وتوهَّما أن أحداً لا يحلف باللَّه حانِثاً، وقد روي عذر آدم مثل هذا في بعض الآثار، وقال ابن جُبَيْر‏:‏ حلف باللَّه لهما حتى غَرَّهُمَا، والمؤمن يخدع، وقد قيل‏:‏ نسي، ولم ينو المخالفَةَ؛ فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏ أَيْ‏:‏ قَصْداً للمخالفةِ وأكثر المفسرين على أن العزمَ هنا الحزمُ والصبرُ، وقال ابن فُورَكَ وغيره‏:‏ إِنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوءة، ودليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى * ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121، 122‏]‏ فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وقيل‏:‏ بل أكلها، وهو متأوِّل، وهو لا يعلم أنَّها الشجرة التي نهي عنها، لأنه تأول نهي اللَّه تعالى عن شجرة مخصوصةٍ، لا على الجنْسِ، ولهذا قيل‏:‏ إنما كانت التوبةُ من ترك التحفُّظ، لا من المخالفة، وقيل‏:‏ تأول أن اللَّه تعالى لم ينهه عنها نَهْيَ تحريمٍ‏.‏ انتهى بلفظه فجزاه اللَّه خيرًا، ولقد جعل اللَّه في شِفَاهُ شِفَاءً‏.‏

والضمير في ‏{‏عَنْهَا‏}‏ يعود على الجنة، وهنا محذوفٌ يدلُّ عليه الظاهر تقديره‏:‏ فَأَكَلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ‏}‏‏:‏ قيل‏:‏ معناه‏:‏ مِنْ نعمة الجنَّةِ إلى شقاء الدنيا، وقيل‏:‏ من رفعة المنزلةِ إلى سُفْل مكانة الذنب‏.‏

* ت *‏:‏ وفي هذا القول ما فيه، بل الصوابُ ما أشار إليه صاحب «التَّنْوِيرِ»؛ بأن إخراج آدَم لم يكن إهانة له، بل لما سبق في علمه سبحانه من إكرام آدم وجعله في الأرض خليفةً، هو وأخيارَ ذرّيته، قائمين فيها بما يجبُ للَّه من عبادتِهِ، والهبوطُ النزولُ من عُلْو إلى سُفْل، واختلف من المخاطَبُ بالهبوط‏.‏

فقال السُّدِّيُّ وغيره‏:‏ آدم، وحَوَّاء، وإِبليس، والحَيَّة التي أدخلت إبليس في فَمِها، وقال الحسن‏:‏ آدمُ، وحواءُ والوَسْوَسَة‏.‏

و ‏{‏بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ جملةٌ في موضع الحال، ‏{‏وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ‏}‏، أيْ‏:‏ موضع استقرار، وقيل‏:‏ المراد الاستقرار في القبور، والمتاع‏:‏ ما يستمتع به؛ من أكل، ولُبْس، وحَدِيثٍ، وأنس، وغيرِ ذلك‏.‏

واختلف في «الحِينِ» هنا‏.‏

فقالت فرقةٌ‏:‏ إلى المَوْتِ، وهذا قولُ من يقول‏:‏ المستقرُّ هو المُقام في الدنيا، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏‏:‏ إلى يومِ القيامةِ، وهذا هو قول من يقول‏:‏ المستَقَرُّ هو في القبور، والحِينُ المدَّة الطويلة من الدهر، أقصرها في الأيمان والالتزامات سَنَةٌ؛ قال اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 25‏]‏ وقيل‏:‏ أقصرها ستَّةُ أشهر؛ لأن من النخل ما يطعم في كلِّ ستة أشهر‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ فائدةٌ لآدم عليه السلام؛ ليعلم أنه غير باق فيها، ومنتقلٌ إِلى الجنة التي وعد بالرجوع إِليها، وهي لغير آدم دالَّة على المعاد، وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سَرَنْدِيبَ، وأن حواء نزلَتْ بِجُدَّةَ، وأن الحية نزلَتْ بِأصْبَهَانَ، وقيل‏:‏ بِمَيْسَانَ، وأن إبليسَ نزل عند الأُبُلَّةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏37‏)‏ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ‏}‏‏:‏ المعنى‏:‏ فقال الكلماتِ، فتابَ اللَّه علَيْه عنْد ذلك، وقرأ ابن كثير «آدَمَ» بالنصب «مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ» بالرفع، واختلف المتأوِّلون في الكلماتِ، فقال الحسنُ بن أبي الحسن‏:‏ هي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏، وقالت طائفة‏:‏ إِنَّ آدم رأى مكتوباً على ساق العرش‏:‏ محمَّدٌ رسُولُ اللَّهِ، فتشفَّع به، فهي الكلماتُ، وسئل بعض سَلَفِ المسلمين عمَّا ينبغي أن يقوله المُذْنِبُ، فقال‏:‏ يقول ما قاله أبواه‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏ وما قاله موسى‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 16‏]‏ وما قال يونس‏:‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ أَنْتَ سبحانك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏ وتَابَ عَلَيْهِ‏:‏ معناه‏:‏ راجعٌ به، والتوبةُ من اللَّه تعالى الرجوعُ على عبده بالرحمةِ والتوفيقِ، والتوبةُ من العبد الرجوعُ عن المعصيةِ، والندمُ على الذنب، مع تركه فيما يستأنف‏.‏

* ت *‏:‏ يعني‏:‏ مع العزم على تركه فيما يستقبل، وإنما خص اللَّه تعالى آدم بالذكْرِ في التلقِّي، والتوبة، وحواءُ مشارِكَةٌ له في ذلك بإجماع؛ لأنه المخاطَبُ في أول القصَّة، فكملت القصة بذكُره وحْدَه؛ وأيضاً‏:‏ فَلأَنَّ المرأة حُرْمَةٌ ومستورةٌ، فأراد اللَّه تعالَى السِّتْر لها؛ ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله‏:‏ ‏{‏وعصى ءادَمُ رَبَّهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏ وبنية التَّوَّاب للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ التواب‏}‏ تأكيدٌ فائدتُهُ أنَّ التوبة على العبد إنما هي نعمة من اللَّه تعالى، لا من العبد وحده؛ لئلاَّ يعجب التائبُ، بل الواجب عليه شكر اللَّه تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط لما علَّق بكل أمر منهما حكمًا غير حكم الآخر، فعلَّق بالأول العداوة، وبالثاني إتيان الهدى‏.‏

* ت *‏:‏ وهذه الآية تبين أن هبوط آدم كان هبوط تَكْرِمَةٍ؛ لما ينشأ عن ذلك من أنواع الخيرات، وفنون العباداتِ‏.‏

و ‏{‏جَمِيعاً‏}‏‏:‏ حالٌ من الضمير في «اهبطوا»، واختلف في المقصود بهذا الخطاب‏.‏

فقيل‏:‏ آدم، وحواء، وإبليس، وذريَّتهم، وقيل‏:‏ ظاهره العموم، ومعناه الخصوص في آدم وحواء؛ لأن إبليس لا يأتيه هُدًى، والأول أصح؛ لأن إبليس مخاطَبٌ بالإيمان بإجماع‏.‏

«وإِنْ» في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا‏}‏ هي للشرط، دخلت «مَا» عليها مؤكِّدة؛ ليصح دخول النون المشدَّدة، واختلف في معنى قوله‏:‏ ‏{‏هُدًى‏}‏ فقيل‏:‏ بيان وإرشاد، والصواب أن يقال‏:‏ بيان ودعاءٌ، وقالت فرقة‏:‏ الهُدَى الرسُلُ، وهي إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر هو فَمَنْ بعده‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن تَبِعَ هُدَايَ‏}‏‏:‏ شرطٌ، جوابه‏:‏ ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏، قال سيبوَيْهِ‏:‏ والشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏‏:‏ يحتمل فيما بين أيديهم من الدنيا، ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ على ما فاتهم منها، ويحتمل‏:‏ ‏{‏لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ يوم القيامة، ‏{‏وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ فيه‏.‏

* ت *‏:‏ وهذا هو الظاهر، وعليه اقتصر في اختصار الطبريِّ، ولفظه عن ابن زيد‏:‏ ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏، أي‏:‏ لا خوف عليهم أمامهم، قال‏:‏ وليس شيء أعظم في صدر من يموت مما بعد الموتِ؛ فأمَّنهم سبحانه منْه، وسَلاَّهم عن الدنيا‏.‏ انتهى‏.‏